الجسد الأنثوي وفِتنة الكتابة
الجسد الأنثوي وفِتنة الكتابة
عبد النور إدريس*
يحقق الجسد في النص الأدبي دلالات متعددة منها : الدلالة الفنية التي تعود للمؤلف ومنها الدلالة الجماعية التي يتم إنتاجها في علاقة القارئ بالنص ، فالنص يعتبر كأحد الفضاءات التوليدية والتحويلية للجسد فالنص ،" مسكن تخييلي للجسد، فيه يتجسد ويحقق وجوده المتخيل " (1) فالنص يأخذ من الجسد إيحاءاته الرمزية وحيوية علاقاته بالعالم الخارجي، كما بالعوالم الداخلية وهو إذ يمرر عبره الأحاسيس والعواطف يجعل من ترابطه المرآوي بالجسد وسيلة يتمكن من خلالها من إنتاج أثره الفني ، فالجسد بالنص يقف على ثنائية تشطر الوعي بحدوده إلى جعل البناء البيولوجي أساس قيام البناء الثقافي والاجتماعي وتحقيق الإمكانات الإجرائية للجسد في النص الأدبي .
إن دراسة الجسد الأنثوي بالسرد ليس هو رصد المعجم الخاص الذي يحدده الجسد داخل النص فحسب، بل أيضا العلاقة التي يخلقها هذا المعجم بالسياق الذي يحيطه " فالشخصيات تكتشف العالم والآخرين عبر جسدها " (2).
فالجسد الأنثوي بالعمل الفني، حسب بانيك ريش Yannick Resch يتموضع عبر وضعات خاصة يحدده البناء العلائقي المرسوم عبر معجم يحتوي على التعامل بالألوان والروائح، وهذه العلاقات تضع الشخصية الأنثوية في مواجهة الأشياء، مواجهة العالم، ومواجهة شريكها الرجل في علاقة حميمية تلخص رغبتها في الحياة ، وقد تمزج روحها بجسدها حتى الاندغام لتكون شيئا مرغوبا من طرف الرجل وقد عبرت ليلى العثمان في قصتها " مسافرة على جناح الأحلام" على هذه الصورة وقالت " قد تكومت كل روحي في نقطة واحدة يهرسها بين شفتيه " (3).
إن فتنة المتخيّل السردي لدى المرأة يظهر بأشكال مختلفة داخل الرواية والقصة، فمن التعبير البصري إلى اللغوي إلى الحركي.
إن الكتابة بالجسد يُكسب الذات النسوية هويتها، تلك الهوية التي تنقاد مرغمة للسائد الاجتماعي والأعراف المجتمعية" هكذا تتأرجح الذات بين الإحساس المؤلم بتبعيتها لما هو سائد والاعتراف به كواقع وبين الإنصات إلى رغبات الجسد السالبة" (4).
ويتشكل الوعي بالتعامل مع هذه الخاصية في خلق علاقة إبداعية بين المرأة والكتابة في أشكالها وفي الطرح الإشكالي لمسألة الهوية في اتصالها مع مسألة الجسد والحقيقة الأنثوية وفعل الكتابة " كامتداد وجودي ينجلي في الورق المكتوب كما يمكنه أن ينطبع على جسد أنثوي بالغ الشاعرية والإغراء" (5).
فالمرأة تتخذ من الكتابة وسيلة لجعل ذاتها متحققة داخل النسق الذكوري العام" فهي لا تكتب من أجل السيطرة على الرجل كما يفعل هو بواسطة القانون والآداب (...) فهي ترمي من الكتابة والكلام كل شروخ جسدها وتموجاته" (6)، ويقر محمد نور الدين أفاية بأن القهر الوجودي العام الذي تمارسه على المرأة العلاقات الاجتماعية والأخلاقية والنفسية الذكورية تجعل كتابتها " بعيدة كل البعد عن رغبتها العارمة في الإحاطة باللغة الضرورية لصياغة رغبتها في الكتابة" (7)، وتساءل حول اللغة والخطاب وحول إستراتجيتهما لتحقيق هذه الصياغة، صياغة ملامح الخطاب التحرري النسائي وتحديد بدائله.
إن كتابة المرأة تفجير لأشياء ينطوي عليها الجسد ، وهي كامنة تطل علينا عبر الإيحاءات والإيماءات وتكثف فعلها في جسد الآخر المتماهي والمختلف لهذا كان " النص المكتوب امتدادا وجوديا للذات الكاتبة وتكثيفا لأشياء أخرى تتجاوزها" (8).
فالمرأة قد تكتب بجسدها وتضعه نصا لكتابتها بالوشم والرقص ، فهي " تصوغ كتابتها بشكل مختلف تماما عن أشكال كتابة الرجل. سواء أتعلق بالكتابة المخطوطة أو أشكال الكتابات التي لا تتوقف المرأة عن ممارستها في علاقتها بجسدها" (9).
فكتابة الرجل هنا لا يمكن أن نضعها مقياسا للكتابة المحتذاة وإلا أصبحنا نقيس كتابة المرأة كهامش بالنسبة لمركزية الرجل .لهذا فالمرأة تحاول أن تظهر جسدها في أشكاله المختلفة معتمدة على آلية الإغراء فهي لكي تغري وتؤسس علاقة مع الآخر" تتخذ الصورة التي تحملها عن ذاتها مكانة أكبر من جسدها الحقيقي الواقعي، إنها تعطي للعالم قناعا لكي ترتب للجسد مسافة ما . فهي تفضل إبراز التمثل الذي تحمله عن جسدها بدل جسدها الملموس" (10).
فالمرأة الكاتبة تكتب بالجسد وتحوله إلى أيقونة، صورة ذهنية لا تكتمل إلا بتمثلها لدى الرجل الذي يمتلك مرجعية هذه الصورة عبر تصورات راجعة إلى التأسيس الميثولوجي لظاهرة الفحولة وبذلك لا يتحقق للجسد الأنثوي كينونته إلا إذا كانت نظرة الرجل إليه تؤسس المعرفة بحدود انفلاته البلاغي(11).
فالمعنى الذي وضعه نور الدين أفاية للجسد داخل النسق الخاص بالأنثى وكإعلان للكتابة قد فاق كل الأشكال التي تنخرط فيها المرأة إبداعيا " فالمرأة لا تكتب على الورق فقط لأنها تتألق في الكتابة على جسدها على اعتبار أن التمويه، ومختلف أشكال إبراز ذاتها، بمثابة نقش على الجسد" (12).
فجمال المرأة بشكل عام وبما هو المشروعية المكتسبة لتأسيس هوية الأنثى يجد شكله النهائي في الإغراء ، فالمرأة التي لا تستطيع أن تغري تعيش وجودها خارج ذاتها وبشكل عدمي، فهي " بأساليب التمويه التي تلصقها بجسدها تكتب مباشرة على جسدها، تعطي عناية خاصة لفتحات جسدها، عينيها وفمها.إنها ترسم ورسمها تكثيف لرغبتها.والرجل تتولد لديه حساسية خاصة نحو هذه الرموز" (13). فالمرأة حسب أفاية تؤكد أنها تستعمل التمويه فقط لنفسها فهي تنقش على جسدها ، تضع لوجهها قناعا وتلبسه رسوما تجمله وهي بذلك تنشر دفء الحياة في جسمها الميت وتبرز للآخر عبر النقش على الوجه والجسد ومن ثم من خلال الوشم والرقص والكتابة تؤسس لامرأة تتجاوز وجودها الخاص وتعطي لذاتها حق مساءلة طبيعة هذه الرغبة التي يُلحقها الرجل بفتحات جسدها ، فالجسد الأنثوي داخل الوضع السيميولوجي يضع المرأة الراقصة أمام تعدد الأسئلة ، فهي راقصة- مبدعة، إنها عندما ترقص توحي بكتابتها الجسدية أنها تخُطُّ تشكيلات هندسية متعددة الأصوات تقف بين الكلام و الكتابة " فالوجود الراقص هو حد نظري للغة(...) إذ أن الجسم الراقص يكتب الكلام ويحطمه، يجرد من الفضاء هندسة دقيقة ومتعددة الأصوات، إنه زوبعة القوانين، انعكاس الخطوط ومحو الأثر الذي بواسطته ينطق الأصل ويُمحق" (14).
إن هذه اللحظة بين الكلام والكتابة تتداخل خصوصياتها، تتراءى ملامحها لتجعل من الجسد الأنثوي الراقص لحظة بين الكلام والكتابة النسائية.
وقد تكتب الأنثى عن طريق الوشم لتجعل جسدها ممتلئا بالرموز .وقد أصبح الوشم اختصارا لفعل وجودي قابل للفناء فالكتابة على الجسد الأنثوي كتابة مزدوجة تخترق الصمت الذي يعلن عن موت الجسد ف " الجسم الموشوم يستمر في التجلّي خلال الموت كأن الوشم قد سرق شاهد القبر " (15) .
وما دامت الكتابة حسب فيفري تبدأ فعلا مع الدليل المادي، وريث الرمز، (16) فالوشم يخلخل الأنظمة الدلالية يجعل للرموز المرسومة على الجسد دلالتين: دلالة جمالية ودلالة سحرية وهذه القيمة السحرية تستغلها الكلمات الموشومة على الجسم وهي بذلك تنفلت من المنطق السياقي إلى خلق هندسة لأشكالها وأسمائها إذ أن : " اقتصاد السياق بين الوشم وتاريخه بسبب افتقاد الموضوع الذي اعتبر صلبا.لأن تخطيط الوشم الهندسي يعمل هو الآخر على تشويه الذات ، ما دامت تتبعثر في هندسة لا يعرف أصلها في غالب الأحيان " (17) .
إن المرأة تكتب بالوشم جسدا مقدسا ينشطر إلى نصفين متماثلين" الجبهة، الذقن، بين النهدين، الصرة، العانة.." وهذه نقط مركزية يتفرع عنها الإغراء والرغبة.
إن المرأة الواشم مبدعة تكتب لتضع لذة النص المكتوب بيد المتلقي ذكرا أو أنثى لاكتشاف نهايات الجسد الأنثوي الاشتهائية ، ينتقل عبرها الجسم من نظام الأيقونة إلى الجسم اللاهوتي.
إن الوشم ينتمي إلى المقدس فهو كالكتابة عند المرأة تجعله قناعا لتمارس منظومتها الإغرائية فهو لباس داخلي تخيطه الأنثى الواشمة لتخالف به اللباس الذي غالبا ما يكون الرجل من بين مصمميه، وقد يُعتم الوشم على المتلقي رؤية ما يحيط بجسد الأنثى، إنه يلعب دور المغناطيس الذي يحجب الجسد الحمدلي عن الانتهاك، فالاستعراض الجنسي محمي بالوشم وهذا الدور تقوم به " لخميسه" التي تُعطل بلاغة النص الأنثوي وتنظم فوضى الدلالات وتنفتح غائبة أمام العين الثالثة (الرجل) لتصبح " لخميسه " ذات دلالة وواسطة للإغراء والإثارة والاشتهاء لا يتعطل مفعولها السحري إلا إذا كانت العين الثالثة تحقق لمجمل وشم الجسد هويته وبذلك يأخذ شكله ، استهلاكه من المتلقي/الزوج أو المتلقي/ العشيق، يقول هِرْبر: " من الغريب أن العاهر تعلن على جسد يمتلكه الجميع بحكم المهنة أن قلبها مخصص لرجل واحد"، فالعاهر تشِم جسدها لتستأثر بمكان الوشم وتخصصه لمن أحبته وتدع الباقي مشاعا للجميع.(18)
فالوشم على الجسد يختلف باختلاف الجنس كما يقول عبد الكبير الخطيبي، فالمرأة "يمكنها أن تشم مقدمة جسدها بينما يكتفي الرجل بوشم يده، أي الذراع والعضد، بمعنى إن يد الرجل لا تغادر مجال الكتابة ( تكتب وتُكتب ) ونحن بالإضافة إلى ذلك نشم مثل ما نكتب" (19) .
فالمرأة التي تكتب ( باللغة والوشم والرقص ) تغير أماكن التمويه بجسدها وتعبر عن رغبة لا تتكلم نفس اللغة التي يبرز فيها الرجل رغبته فحسب الدكتور سعيد بنكراد فهذه " العناصر مجتمعة لا تشكل الرغبة ولكنها تشكل الوجود الرمزي للرغبة" (20)، فرغبة الأنثى " تنفلت من منطق العقل الذي يريد الرجل دائما إخضاع كل شيء له" (21) .
وقد اعتبر الباحث محمد أفاية أن هذا التشويش على فهم المرأة من خلال المنطق الذكوري يشكل مركزا أساسيا للعنف الرمزي الذي يحتوي عليه هذا المنطق حيث قال " هنا ينتصب العنف كتعويض عن عدم خضوع المرأة لمنطق الرجل" (22)، فالرجل بحسب هذا المنطق يقول بالتطابق والوحدة بينما تتموقع المرأة في قلب المنقسم والمتعدد" وأن هذا التعدد يتجلى في جنسيتها sexualité ، فهي ليست واحدة لان جسدها جغرافية متنوعة للمتعة" (23)
أما الدكتور سعيد بنگراد فيضع الجسد الأنثوي بين الحجم الثقافي والمعطى الوظيفي ، فالجسد عنده كلا وأجزاء في نفس الوقت وهو باعتباره كذلك " يولد معطى انفعاليا وغريزيا وثقافيا عاما ، ولكن هذا المعطى لا يدرك إلا من خلال الأجزاء، ولا يستقيم وجود هذه الأجزاء إلا من خلال اندراجها ضمن هذا الكل الذي هو الجسد" (24).
إن إنتاج تخيل سردي أنثوي يضع المرأة ضمن المنقسم والمتعدد داخل أيديولوجية ذكورية مهيمنة يجعل حضورها غائبا وفضاءها مشحونا بالرقابة والكبت ف " ليس هناك من فضاء ممكن بالنسبة للمرأة، غير ماهو مراقب ومكبوت" (25).
- فما معنى أن ينتج الخطاب الفلسفي قولا ميتافيزيقيا يتشبث بأحادية الجنس الواحد؟ .
لقد عملت الميتافيزيقا على تقنين جسد المرأة وصوغ خطاب يدخلها ضمن العلاقات الإنتاجية مما جعلها شخصية انفصامية داخل هذا الواقع موزعة ما بين التداخل الحاصل بين الجسد كمعطى بيولوجي والجسد كمعطى ثقافي –رمزي، ففي كلا الحالتين تعمل المرأة ، مضطرة للانخراط في استلابها " ولكي يكتسب الجسد قيمته لا بد من إن يضفي على ذاته أشكالا أخرى أكثر جذبا وإغراء لتسهيل تبادله " (26)، وقد تأخذ هذه الثنائية : طبيعي/ ثقافي تقسيم العمل الجنسي الذي يدعو المرأة أن تعتني بجسدها " وتعطيه العناية الفائقة وتحويله إلى الرغبة ولو إنها لا تصل إلى تحقيق نسبي لرغبتها هي " (27)، لأن الرغبة قضية يستلزمها السياق الرمزي الذي ينتظم المجتمع الذي تعيش فيه المرأة التي تختار الانمحاء الوجودي كي تكتب جسدها من الداخل وتعمل على إظهاره بشكل مختلف من الخارج.