الوعي الحركي: نظرات في فلسفة التربية البدنية

Publié le par الدكتورعبد النور إدريس

الوعي الحركي: نظرات في فلسفة التربية البدنية

ديداكتيكا المواد التعليمية

للدكتور:عبد النور إدريس

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

«الطفل الذي يلعب مقدس عندي» فروبـل

مدخل تاريخي:

■ تطور النصيب التقني من حضارتنا وتقلصت استعمالاتنا للعضلات الأساسية التي كانت سبب انتصارات الإنسان الأولي على الحياة، وبالتالي ازداد الإلحاح باحتياج الفرد إلى توليد النشاطات الفيزيائية، ينشأ فيها التوازن بين النمو الجسدي والنمو النفسي، وبذلك خرجت التربية البدنية من عنق الزجاجة معبرة عن نفسها أنها تمثل عضوا مهما في أركسترا التربية العامة، فإلى أي حد عبر الوعي الرياضي عن هوس العصر، في توقيعها عقد زواج بين الطرح الحركي كوسيلة والتصدي لتشوهات الواقع كغاية؟ اكتشف الإنسان البدائي أن ممارسته للقطف تبعث فيه الحرارة، فأصبح الفعل شرطيا، كلما زغب في الدفء مارس القطف. هكذا نستشف أن تلك الحركات الاحمائية الهادفة برغبة بدائية قد أفقدت عضلات اليد المستحيل الحركي؛ ومن تم فالحضارة إذ يرجعها المؤرخون إلى بداية عصر الالتقاط، فإنما يرجع الفضل في ذلك إلى ما اكتسبته اليد من مرونة غيرت من السرعة التي يتجاوب بها البدائي مع محيطه وكأن التعقيدات الحضارية التي نعيشها اليوم ناتجة عن تطور كبير في استخدام أصابع اليد التي أصبحت تستجيب للتفكير والابتكار؛ يقول روني أوبير في هذا الصدد حول دور اليد في بناء الحضارة ما يلي: «إن اليد عضو التفكير كالدماغ سواء بسواء، وأن تربية اليد تربية للذكاء شأنها شأن تربية الحواس بل تزيد»1 ويجدر بي أو أوضح هنا أن الإنسان البدائي حينما بدأ يستخدم يديه في حمل محمولاته. فقد بذلك التواصل مع الآخر من حيث أن حركة اليد عنده كانت بمثابة التفكير والنطق، - إرساليات خطابية – الشيء الذي لا يساعده على التواصل الإشاري ليلا أو من بعيد مما أدى به إلى اختراع نشاط آخر للتعبير: التصويت، الطبل الدخان والنار... واللغة أخيرا. تلك كانت أوجه النشاط التي فتحت طلسم التاريخ للإنسان، فاحتوته التربية التي أعطت في العصر الإغريقي اهتماما بالغا للتدريب البدني والعسكري قصد تكوين الكائن المحارب، الشيء الذي جعل التربية الاسبرطية – نسبة إلى اسبرطا – تميل إلى تأكيد رفاهية الدولة عبر القوة البدنية رافعة لواء البقاء للأقوى؛ وفي وقت وعي التربية الإغريقية بضرورة إحداث التوازن بين النمو الجسدي والعقلي، كانت التربية الرومانية تمارس طقوسها في تمجيد الجسد تلك التي تجاوزتها التربية البوذية بكثير حين جعلت من ممارسة "اليوغا" فرضا من فرائضها الدينية والتي كانت تتعبد بتعذيب الجسد قصد تنقية الروح. وتؤكد وداعة ورقة رجال الكنيسة على إهمال المدرسة القروسطية للتربية البدنية، فقد أكدت نفس النظرة الدينية للبوذية لكن حلقة التصادم بينهما أبان عنها الخط العام الديني الكنيسي الذي يحقق الاتصال بالعالم العلوي عبر تحقير الجسد قصد تشريف الروح. ومع الارتكاز حول مدار الفرد في عصر النهضة تمادى إهمال التربية البدنية على حساب التربية العقلية. لهذا فإذا: «... كان تمجيد الجسد من أجل الجسد ضربا من الحماقة، فاحتقار الجسد حماقة أكبر». رونين أوبير.2 التربية الحديثة توازن وتكامل: ولعل خير ما تمتاز به التربية عصرند، أنها توازن، لذلك فهي ثورة على الأوضاع الاجتماعية التي جعلت من الحرب عنصرا حساسا في عرفها والتي كانت تسعى إلى تكوين فرسان نظاميين. لقد انتهى عهد، كن بالجسد تتفجر فيك عبقرية البقاء، وعبثا نتمسك برفاهية الروحية عبر جسر الجسد. إذن، فعندما تكتشف التربية ذاتها في نظام تربوي ما، سرعان ما تدخل حظيرة مفارقات: فلا جاذبية الفارس القديم ولا البطولية تحدد مغامرة الإنسان بالجسد، حيث الفرد خريطة لهذه المغامرة، ولا لهفة اكتشاف العالم بمفاتيح روحية؛ ما يخدم بحق غاية أي تربية حديثة عقدت العزم على التنشئة الغادية – نسبة للغد – بأحد التيارين المادي أو الروحي فقط، إنما سلطان التوازن من يحقق أفق ورؤية التربية الحديثة التي تتوج بقولة مونتيني: «إن ما نربيه ليس هو الجسد ولا هو النفس، إنما هو الإنسان»، من هنا يتسنى للتربية أن تعد شخصية إنسان الغد على مستوى متفوق من الإتزان، لكن التربية الرياضية التي لا تربط وشيجة قربى مع الأهداف المرسومة من طرف التربية العامة، تعتبر سلبية من حيث تأثيراتها السيئة على النشئ، فمن جهة تقود إلى اعتبار الاستمرار يكمن وراء القوة العضلية على حساب كل القيم الخلقية الأخرى ومن جهة أخرى تدفع بالفرد إلى تحطيم المجتمع في غمرة من النشوة يملك فيها السيطرة على الواقع معتبرا عضلاته مركزا للكون ومستودعا ينشد سيادته على الطبيعة. ورغم كون رأي ميرلو بونتي Merleau Ponty الذي يقول: «جسمي هو مركز العالم، أعي العالم بوساطة جسمي» له نصيب من موافقة الرأي السابق فهو يتجاوزه من حيث النظرة المكانية التي تحيطه، حيث أنه يضع الجسد بؤرة وعي العالم حيث تكون الحركة ملء لفراغ ما، تحتضن التمرين كوسيلة ترمي إلى تحقيق غاية تربوية. إن الإنسان الرياضي يمارس وعيه في الحركة على مستوى عضلي وعقلي، فهو لا يستطيع أن يخلق فكرا في لوحة لغوية ما، بحركته العضلية – باستثناء الرقص كفن – وإنما في استطاعته خلق جو من الحبور السيكولوجي والرضى النفسي لدى وسطه بالعلاقة التي يربط بها حركاته مع عقله في اتساق هندسي. دور البيئة في خلق المهارة الرياضية: يكون الإنسان الناضج جسميا مهيئا لتمثيل مختلف الألعاب الرياضية حسب بنية جهازه العضلي، لكن ما أن ينغرس في بيئة ما حتى تخبو كل تلك الإمكانيات لتظهر في مهارة رياضية معينة، لهذا فجغرافية المكان تضع بصماتها على نوعية الأنشطة الرياضية الممارسة، ففي المناطق الساحلية مثلا يفرض المناخ الحار على الأفراد تعاطي السياحة، كما أنه في المناطق الباردة لا يجد الأفراد خيرا من ممارسة التزحلق، يقول والون Wallon أن أي: «حركة جسمية، تلخص في نفس الوقت أن الوسط هو الذي يصنعها»3، هذا يتبين أن الحركة تنشأ عن احتياج المجتمع إليها، وذلك بالتركيز على عضلات معينة قصد تلبية حاجاته الحياتية التي تكون استجابة لداعي المهنة: -أ- الأيدي: التجديف – الصيد البحري – الحطب... -ب- الأرجل: الرعي، القنص... بذلك تتشكل العضلات البكر للفرد فتحكم عليه باحترام حدود الرياضة الممارسة، فنجد مثلا أن عضلات العداء تختلف في حجمها وكثافتها عن حامل الأثقال مع العلم أن الاستعداد العضلي للعداء يمكنه من ولوج جميع الرياضات الأخرى. كل ما سبق يدعونا إلى التساؤل حول الأهداف التربوية التي تنشحن بها التربية البدنية. تحقق التربية البدنية عدة أهداف ذكرها الدكتور جان لوبولش Jean Le boulche في كتابه « L'éducation par le mouvement » وهي: «- معرفة جيدة وقبول ذاتي. - تصحيح جيد للسلوك. - بنية حقيقية وتقريب المسؤولية في إطار الحياة الاجتماعية.»4 لهذا فمادامت الحركة تشغل حيزا ماديا في الفراغ، فما هي القواعد التي تختمر بها التربية البدنية وتحقنها في وعي الكائن الرياضي؟ يركز جان لوبولش على عدة معطيات ميكانيكية هي التالي: «- التحكم في الاتجاه وتوجيه الذات في الفراغ. - التحكم في المساحات مع القدرة على تحديد الشيء في الفضاء بالاعتماد على حركتنا. - تحديد الشيء في حركته»5 زيادة كون الهدف الحركي للرياضة يعطي للفرد الإحساس بالتحرر من الوسط الذي يحيطه حيث أنه يتحكم في سرعته، بل إن معرفة الوسط تتم بوساطة القداس المعرفي الذي عبر عنه ميرلو بونتي عندما قال: «أرى الأشياء ألمسها، أفتشها ثم أدور حولها بجسمي» هذه الطقوس التي تكشف عن جنين التحرر من جهل العالم الخارجي والتطلع للسيطرة على الطبيعة. وللتربية البدنية آثارها في البنية البشرية كنسق، على مستويين مادي ومعنوي. -أ- المستوى المـادي: ينتعش التاريخ كأحداث مع بداية الحركة في الزمان، فبقدر ما يتواجد النظام في أي حركة بقدر ما تذهب صيرورة التاريخ الإنساني نحو كمال الحدث من جانبه الهندسي. ومن تم أتت الرياضة التصحيحية كعلاج لمخلفات صراع الإنسان مع الجاذبية، فهي تعيد التوازن والاعتدال إلى ما تشوه من العمود الفقري –التي تنتج عن أوضاع سيئة يتخذها الطفل داخل الفصل أو خارجة -: الحدب، البزخ، الجنف. ولطمس معالم هذه التشوهات تبنت الرياضة التصحيحية بالانسجام مع الرياضة الوقائية تمرينات حمائية لمختلف أجهزة الجسم، القصد منها تخليص الطفل من تشوهاته الهيكلية مع حقنه بحقنة المناعة ضد مختلف الأمراض الطفولية الشائعة، فتنشط إداك الدورة الدموية التي تستهدف بدورها انتعاش النخاع الشوكي حيث تكتمل كل الوظائف الحيوية بنمو الجهاز العصبي وتأتي الرياضة الطبية كسابقاتها لتعيد بناء ما أفسده الدهر من بنية الإنسان في محاولة تصحيحها: حوادث، تشوهات مهنية.. الخ. تحدثنا عن التنشئة المادية للتربية البدنية، فما هو وجه التنشئة المقابل من عملة التربية الحديثة. -ب- المستوى المعنوي: ويتضمن الجوانب النفسية والاجتماعية والتربوية. 1- التنشئة النفسية، وتحوي على: - تكوين الشخصية عن طريق المحاولة وحذف الأخطاء. - إشباع الميل الحركي: - الحرية المسؤولة في شغل الفراغ. - وقاية الفرد من الإفراط والغلو وتبني القصد والاعتدال في بذل أي جهد. - العمل على تربية العواطف والانفعالات. - السيطرة على الذات في مواجهة الآخر. - مناعة ضد الانطوائية وعنصر من عناصر المنافسة البريئة. 2- التنشئة الاجتماعيـة: - تربية خلقية للفرد. - خلق الكائن – القائد – بالمفهوم الاجتماعي. - تنمي في الفرد مفارقته لغرائزه ومحاكمته لذاته في كل نشاط بدائي يقول أدولف هتلر في ذلك: «الشاب الذي يمارس الألعاب الرياضية يصبح أكثر قوة ومقدرة على كبح جماح غرائزه الجنسية6. - احترام القوانين التي تضبط اللعبة، يقول طوماس أرنولد Thomas Arnold: «إن التجمع الرياضي مجتمع صغير يعتمد على العضلات والقوانين». - التمركز حول اللعبة وهي بذلك مدرسة لتكوين الطبعة وآلة دمج الفرد في مجتمعه يقول لاتراجيه latraget معتبرا القانون العام إناءا تتقطر فيه قطرات قواعد أي لعبة: «ومراعاة القاعدة يعلم الخضوع للقانون» 7. 3- التنشئة التربوية: - تنمية النقد الذاتي بالضرب على وتر الروح الرياضية. - تفجير روح التعاون عند المجموعة الرياضية نحو الهدف المشترك. - تمرس المجموعة الرياضية على الحكم الذاتي مع مراعاة القواعد. - التعود على الاتصال بالآخر والتعامل الحسن معه صديقا كان أم خصبا. - ملء أوقات الفراغ خاصة بعد انتشار أدخنة التصنيع الخانقة. هكذا فالتربية البدنية تزخر بأكثر مما تعد به، ولا يمكن لها أن تفي بما وعدت به من تكوين الفرد على مستوى جسمي وعقلي إلا إذا اعتنت بها الحكومات عناية هادفة لبناء عالم الغد، في هذا الصدد ندرج هنا قولة رونيه أوبير التي يلمس فيها الوتر الحساس لاهتمام الحكومات بالتربية البدنية يقول: «فالحكومات ترى فيها وسيلة من وسائل تحسين جيشها وصناعتها، وأداة من أدوات زيادة نتاج العمل وإنقاص الأعباء الاجتماعية التي تتأتى عن المرض أو الحوادث أو العجز عن العمل أو الشيخوخة المبكرة»8. عندما يتحرك جسمي حركة أولية – بدائية – فإنني ألغي التراث – التربية - الثقافة، من هنا تكون أي حركة انفعالية مجسدة: غضب، خوف، جواز سفر إلى عمق التاريخ، لذلك يجب أن يكون المنطق أساس الحركة الجديدة. فما يا ترى ما يتحقق من الأهداف التي سردناها آنفا في مدرستنا من هذه المادة؟ وجب على كل معايني السير التربوي بالمدرسة الابتدائية والثانوية أن يستعجلوا البث في الأسلوب والقالب المهزوز الذي تقدم به التربية البدنية، والمضمون الواهن الذي تلهث به هذه المادة إثر زحمة الظروف غير الموضوعية الواجب تنحيتها من الميدان، هذه التي تكبت المادة من أن تفيض بالزخم التربوي الذي تحتوي عليه. من هنا كان زمن الولادة هو لحظة تناسل الوعي التربوي مع إحباطات الإنسان في مقابل التلقائية التي تهتف في أذن التاريخ: أتحرك يعني أني أشغل فراغا وأترك أثرا، يدل على أن لي وجودا ماديا.

الهوامش

1- التربية العامة، تأليف روني أوبير ترجمة د. عبد الله عبد الدايم دار العلم للملايين بيروت ص 400. 2

- نفس المرجع السابق، ص 379.

3- L’éducation par le mouvement a l’âge scolaire, la psycho – cinétique du D. Jean Le Boulche (الترجمة منّي).

4- أخذا عن كتاب جون لوبولش

5- نفسه المرجع السابق. 6- كفاحي – ادولف هتلر، دار الكتب الشعبية الطبعة الثانية 1975، ص 41-45. 7- التربية العامة، د. روني أوبير، نفس المرجع السابق، 403, 8- التربية العامة – روني أوبير نفس المرجع السابق، ص 392.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

د.عبد النور إدريس

Publié dans تربية

Pour être informé des derniers articles, inscrivez vous :
Commenter cet article