العصر الرقمي والرواية 2
www.arab-ewriters.com الأستاذ محمد سناجلةـ
العصر الرقمي والرواية (2)
تتمة
إن الإجابة عن هذه الأسئلة التي يلد بعضها بعضاً في سلسلة ملعونة وموتورة يجب أنْ يقودنا إلى التوقف والعودة إلى التاريخ … تاريخ الرواية.
ولكن قبل العودة إلى التاريخ دعونا نستمع إلى آينشتاين وهو يهمس " إنّ المعرفة محدودة ولكنّ الخيال غير محدود " ثم ننطلق من هذه الهمسة الصغيرة في محاولة الإجابة عن حقل الألغام السابق.
حين أطلق سرفانتس العنان لخياله ليحلم بعالم آخر غير عالمه الواقعي الذي لم يكن قادراً على تقبّله والتعايش معه، كتب الدون كيشوت، كان الدون كيشوت استجابة عملية لخيال غير عملي، ذلك لأنّ سرفانتس كان مسكوناً بالماضي وبالقيم الأخلاقية التي سادت في زمن لم يعد قائماً، زمن الفرسان والنبلاء والفضيلة حيث تسود قيم الخير والحق والجمال، وحيث أنّ العالم الذي كان يعيش فيه سرفانتس كان عالماً من فوضى فقد كانت الإمبراطورية الإسبانية في قمة تحللها وانهيارها، فكان لا بد له من العودة إلى الماضي فعاد.
من هذه النقطة انطلقت الرواية الحديثة بمعناها الواسع.
لكن السرد لم يبدأ بالرّواية، فقبل سرفانتس والدون كيشوت كانت ليالي ألف ليلة وليلة، التي تعتبر بحق تأسيساً عملياً للرواية.
كانت ليالي شهرزاد نوعاً آخر من الاستجابة العملية لخيال غير عملي هرباً من واقع مرعب، واقع مليء بالظلم وانهيار القيم.
إذاً فقد جاءت الرّواية وليدة للخيال البشري الجامح الذي حاول أنْ ينشئ عالماً آخر موازياً لعالم واقعي مرفوض أصلاً، وهذا يعني أنّ الرواية ولدت نتيجة لحافز فاعل ورد فعل فاعل موازٍ له في القوة ومعاكس له في الاتجاه حسب القانون الثالث من قوانيـن نيوتن.
لكنّ خيال سرفانتس وكتاب ألف ليلة وليلة، ومن بعدهم المحدثون أمثال وليم فوكنر كان خيالاً سلفياً – ولهذا كان غير عملي- إذا صحّ التعبير، فسرفانتس لم يتخيل المستقبل بل الماضي وكذلك فعل فوكنر وكاتب ألف ليلة وليلة ومن جاء بعدهم من الروائيين.
حنّ سرفانتس لماضٍ عريق كانت تسود فيه قيم معينة فاخترع الدون كيشوت وحنّ فوكنر لماضي الجنوب الأمريكي قبل أنْ يدنسه الشمال المنتصر فاخترع "مقاطعة يوكنا باتوفا "التي تدور في أرجائها أحداث كل رواياته.
أمّا كاتب ألف ليلة وليلة فقد حنّ لماضٍ أشدّ إيغالاً وعمقاً في التاريخ، ماضي التكون الحلمي الأول للإنسان، حيث كانت الأساطير هي المهيمنة على الفعل البشري، وفي الحقيقة فإن عمل الخيال البشري بهذه الطريقة الارتدادية إنما يدل في أحد أوجهه على الطفولة الحلمية المرعبة التي عاشتها البشرية في عصورها الأولى قبل أنْ يتشكل الوعي.
هذه الطفولة التي تخزنت في اللاوعي الجمعي للبشرية، وارتدت فيما بعد – بعد مرحلة تشكّل الوعي- إلى عنف دموي لا يرحم لون الكرة الأرضية بالأحمر القاني. فقد عاش الإنسان في أول تواجده على هذه الأرض ضمن بيئة لا ترحم، مليئة بالظواهر الطبيعية المعادية والوحوش الكاسرة التي كانت تنقضّ عليه بلا هوادة أو شفقة. ومراجعة بسيطة لمجمل الأساطير البشرية ستدلنا بشكل مؤكد على هذه البيئة المرعبة، ولنأخذ أسطورة التنين الذي ينفث النار، أو أسطورة الأفعى لوتيان ذات الرؤوس السبعة على سبيل المثال، حيث تدلنا هذه الأساطير على أنّ بدء تواجد الإنسان على هذه الأرض يمتد إلى عصر الديناصورات، فالتنين ليس أكثر من طائر ضخم ومفترس، وكذلك الأفعى ذات الرؤوس السبعة، ولابدّ أنّ الإنسان في المرحلة الحلمية الطفولية قد واجه عالماً في غاية الرعب والشراسة.
عالم قاس تخزن في لا وعيه الجمعي، ثم ظهر بعد تشكّل هذا الوعي على شكل عنف مدمّر، سواء كان ضدّ أخيه الإنسان، أو ضدّ الحيوان، أو ضدّ البيئة المحيطة بشكل عام.
فالإنسان هو أكثر الكائنات عنفاً ودموية، وهذا شيء مبرر، فمن المعروف في علم النفس أنّ الطفل الذي يعيش طفولة قاسية وعنيفة يكون ميالاً للعنف حين يكبر وينضج، من هنا لم يكن غريباً أبداً أنْ يلون الإنسان الوجود بلون الدم، ولم يكن غريباً أيضاً أنْ يرتد مبدعوه وروائيوه الأوائل في خيالهم إلى تلك الطفولة المرعبة في محاولة منهم لفهمها واستيعابها.