شرنقة أحلامٍ عاهرة

Publié le par abdennour driss

 

شرنقةُ أحلامٍ عاهرة

 

 

المساء شاحب، أعمدة المصابيح ما تزال واقفة بدون ملل، كل شيء يدعو إلى مغادرة الدّروب ،الرذاذ يداعب خياشيم المدينة، الحي موحش مليء بالوحل ،الفراغ أكل نداءات الأطفال ، الهواء مخنوق.. كل المارة يمشون وراء أرجلهم لا يلتفتون .. طيش الأطفال قد عبث بكل شيء... بزمنهم وزمن عاشوراء...

 

       وهو شاب يثير الاشمئزاز في السابعة عشر من عمره، نحيل، ذابل العينين، أحمر الأنف لونه أسمر داكن، في عينيه بريق، كل الحي لا يرتاح لخشونة مظهره، يحمل صندوق التلميع الخشبي، يحتضنه في إهمال،عينيه مسمّرتين على أرجل المارة ..الكل يمشي أمامه.. هذا الكل يستعجل خطاه نحو نهايته، الخطوات لا تنتهي.. حي العوادين طويل الخُطى ، والزاوية التي يحتلها "سَّبَّاطَه" ضيقة كان يسميها قبر الحياة ...شرنقة تفتح دراعيها للزاهد والعابد والسكير والكثير من فتيات الشارع أو الزُّقاق...

 

       الفتور الصباحي يعم كل شيء .. نظرات المارة لا تخلو من إدانة يرقبون جسد اللّعنة الذي يحتمي بعَرائه من لسع العراء..وهو تحت هذه النظرات القاتلة كان يطلب منّي أن يستقيل من حكايتي أو أن أضعه في الدفء مكافأة له على قبوله البطولة في أقصوصتي...

 

       تجلس بقربه عجوز لا يعرف أحد لها عنوانا أو إسما حقيقيا .. رسم الزمن على وجهها صراعها الخفي مع الخبز .. زعقاتها تطرد السكينة .. إنها تصيح لا تمل ولا تنتهي .. إنها حسب طه .. فقط تطلب "مال الله من عباد الله " إنها القدر الذي بدأ، سعلاتها المتواصلة ونظراتها الملتصقة بجيوب المارة تطرد زبائن التلميع.. إنها قدر جميع سكان المدينة البيضاء حين تُصرِّح بأنها المعمّرة التي تنتظر صفارة النهاية كي ترتاح من غربة هذا العالم القاطن في اللامعنى...

 

لقد عرف أخيرا أن اسمها ميلودة زيان... شمطاء مملكتـ(نـ)ـا... 

 

       الزبون لا يجيب عن سؤال الشاب المتكرر..نظراته حادة وصامتة..

 

       تابع الشاب كعادته غير مكترث.. إنه تاريخ حياته يحكيه بالنيابة عن السارد لكل المتلقّين، حيث بدأ في بيع الماء والنعناع بمحطة المسافرين.. إن الدخول إلى الاستجداء السردي من الضعيف نحو القوي  يبدأ بالحكي.. ويتمطى نحو دلالته المشمولة بكراهية المعاني العربيدة والمزروعة في حنايا الكلمات الشمطاء...

 

       طالعه الشخص المرمي فوق صندوقه بلهجة آمرة.

 

ـ أتعبتني بقصّتك ..الله يتعبك...

 

ـ آسف سيدي، بعد دقائق ستنتهي قصّتي... ستنساها، ستنسى كل شيء.. كل شيء يحتل زاوية التهميش قد حكمتم عليه حتما بالنسيان أنتم مهمّشي الدرجة الثانية.. ثم صمت ابتلع لسانه..لم يكن لقصّته من إثارة كان عليه أن يمر كصبي لحلاق الحي كي يُتقن ثرثرتَ الغشاوة على أعين الزبناء..بينما صمته الطويل أمام الأحذية جعله يعرف طباع الناس من طريقة ربطهم لشرائط أحذيتهم...

 

ويده تجري فوق سطح الحداء ، بدأت قطرات المطر تنبطح على سطح هذا الفضاء الزنديق الذي لا يُنبث سوى الاسمنت ..الكون يجري..تبتل الدرهمان في يده، مكسب زهيد يُسكت حظه النائم، في صدره تراتيل وحشرجة.. تعاوده الدوخة مرّة أخرى..الأشياء تقترب منه وتبتعد.. الهواجس لاتفارق رأسه المملوء بالهذيان الذي انفلت من رقابتي عليه ..إنه يقترب منّي.. فهو يريد أن يهمس في أذني أن داخله يأمره بالتنكر الأعمى لمملكة أحلامه الكسيحة.. يتحكّم في الزمان..زمن هيّج  الاحتفال بآخر ليلة من وهج العام الحالي..

 

ـ يجب أن تحتفل.. أن نحتفل يا سباطة ..يجب أن...يجب..

 

ترامى بأذنه صوت جاره الإسكافي وهو يدفع عربته المليئة بالأحذية البالية نحو مخبئه..

 

- الليل تختّر " نعم يجب أن تحتفل ..ها ها ها ، زمَّ شفتيه.. زوج حداء آخر وسيرحل إلى عالم الأحلام..راح في تفكير ثم ردد " يا ريت"

 

       الكل من حوله لم يعد فيه شيء هادئ، بداخله بركان من الرقص والغناء وهذه الليلة تكتب على صفحاتها الوردية ثالوث النعيم ، الخمر والبغاء والتّعهُّر...

 

حدّق شاردا في لا شيء..واحتفل، كل شيء يبتاعه رخيصا ..إنها عجائب دُنياهم تجيء إليه في حُلمه، ليس لأحلام الشارد ثمن .. لقد ألحّ عليّ مرة أن أُُرَفِّه عنه من سِجْن الحكي ومنطقِه ..فقد أراد أن يرتاد حفلات "الدّيسكو" كالآخرين وينام في فراش وثير بمنزل مكيّف معلّق على سقفه شاشة "نوميريك" كبيرة تسقط منها كل الأجساد ..الجسد الأنثوي في بارابولات(نـ)ـا، بقنوات إكس..إكس...

 

كنت أرفض أن أتخيّله كما يتخيّلُ نفسه، كل شيء بالحكي ممكن كأن أجعله ذات صباح يعثر على حقيبة مملوءة بالأوراق النقدية وأُلغي أخلاقيات التصريح بها لدى مركز الشرطة كما يصرح بذلك كل وُجهاء المدينة ..

 

كنت ذات يوم سأسقط في فخ البطل الذي يصرّح رسميا بأنه تقني معلوميات.. لكن للحكي صرامته بالرغم من أن خمرة المخيال تفعل بالسارد الأعاجيب...تابعت وأنا أتأسف على انحدار دموعه من المآقي..

 

       تكوّم بعد ذلك في الرُّكن كالزّبالة بلا حدود ، اقشعرّ بدنه من لسعات البرد التي تقتطع من جسده الحرارة ورعشة الأطفال في حضرة طقوس الاستماع إلى خرافة "مَمَّا غولَه" ، لفَّ عباءته البالية حولهَ وغمغم في إعياء..

 

       ـ حتّى الخطيئة تجد مكانا تستقر فيه...

 

       بدأ يراجع ذكرياته، اكتشف أن معظم ذكرياته أحداث صغيرة وتافهة، كالجواب الذي لا يعرف غيره ، جئت من حيث لا أعرف ..

 

       بحث لشجونه عن كفن، انتصب في ضلوعه الخريف وفي رأسه خرائب الذكرى، ازداد انكماشا بالركن كأنّما يفر من نفسه،من فجر العام الجديد،دخّن سيجارة بداخلها حشيش ، ثم غاب يتفرّج على أحلامه..

 

       كل من مرّ في صباح اليوم الموالي بحي العوّادين يرى في أسفل الحائط انتفاضة من بقايا ورق السّجائر .. وطعم الحشيش ..

 

اليوم فقط .. استيقظ قبل الريح وهو يعرف أنّ المارة و...أعينهم مغمضة من كثرة السهر سيقولون له تلك الجملة التي كرهها من أعماقه...

 

...كل عام وأنت بخـــــــــــيــــــــــــــــررررررر

 

 

مكناس نص يُنشر لأول مرة

 

Publié dans سـرد

Pour être informé des derniers articles, inscrivez vous :
Commenter cet article